سورة الإسراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة، سنها إبليس اللعين، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ، فقوله: {طِينًا} منتصب بنزع الخافض، أي: من طين، أو على الحال. قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طيناً، وهو منصوب على الحال. {أَرَءيْتَكَ} أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الاعراف: 12] فحذف هذا للعلم به {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} أي: لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال. قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً؛ وقيل معناه: لأسوقنّهم حيث شئت، وأقودنّهم حيث أردت، من قولهم: حنكت الفرس أحنكه حنكاً: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت *** جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واختلفت ***
أي: استأصلت أموالنا، واللام في {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله، وهم المرادون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وقيل: علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن. {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: أطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} أي: إبليس ومن أطاعه {جَزَاء مَّوفُورًا} أي: وافراً مكملاً، يقال: وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم
ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي: استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستفزه أي: أزعجه واستخفه، والمعنى: أستخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل: هو الغناء واللهو واللعب والمزامير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح، أي: صح عليهم.
وقال الزجاج أي: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك. فالإجلاب: الجمع. والباء في {بخيلك} زائدة.
وقال ابن السكيت: الإجلاب: الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»، وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب. وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله. {وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال والأولاد} أما المشاركة في الأموال، فهي: كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد: دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: {وعدهُمْ} قال الفراء: قل لهم: لا جنة ولا نار.
وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلاً، وأصل الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل: هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه. {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} يعني: عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل: المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] والمراد بالسلطان: التسلط {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين، خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} فصدق ظنّه عليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأستولينّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأحتوينّهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنّهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مَّوفُورًا} قال: وافراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: صوته: كل داع دعا إلى معصية الله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ} قال: كل راكب في معصية الله {وَرَجِلِكَ} قال: كل راجل في معصية الله {وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال} قال: كل مال في معصية الله {والأولاد} قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: {الأموال} ما كانوا يحرّمون من أنعامهم {والأولاد} أولاد الزنا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: {الأموال} البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله {والأولاد} سموا عبد الحارث وعبد شمس.


قوله: {رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِى البحر} الإزجاء: السوق والإجراء والتسيير، ومنه قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} [النور: 43]. وقول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته *** سائل بني أسد ما هذه الصور
وقول الآخر:
عوذا تزجي خلفها أطفالها ***
والمعنى: أن الله سبحانه يسيّر الفلك في البحر بالريح، والفلك ها هنا جمع، وقد تقدّم، والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً، وقد غلب هذا الاسم على المشهور {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: من رزقه الذي تفضل به على عباده، أو من الربح بالتجارة، و{من} زائدة أو للتبعيض، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحداً، وجملة: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} تعليل لما تقدّم أي: كان بكم رحيماً فهداكم إلى مصالح دنياكم. {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر} يعني: خوف الغرق {فِى البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} من الآلهة وذهب عن خواطركم، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم، أو جنّ، أو ملك، أو بشر {إِلاَّ إِيَّاهُ} وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته، والاستثناء منقطع، ومعنى الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها {فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} أي: كثير الكفران لنعمة الله، وهو تعليل لما تقدّمه، والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفي الرخاء يعرضون عنه. ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلاً: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض، فبين لهم أنه قادر على هلاكهم في البرّ وإن سلموا من البحر. والخسف أن تنهار الأرض بالشيء، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها، وعين خاسف: أي. غائرة حدقتها في الرأس، وخسفت عين الماء: إذا غار ماؤها، وخسفت الشمس: إذا غابت عن الأرض، و{جانب البرّ} ناحية الأرض، وسماه جانباً، لأنه يصير بعد الخسف جانباً، وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبرّ جانب؛ وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البرّ فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر، فحذرهم ما أمنوه من البرّ كما حذرهم ما خافوه من البحر {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قال أبو عبيدة والقتيبي: الحصب: الرمي أي: ريحاً شديدة حاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغار.
وقال الزجاج: الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب: ذو الحصباء كاللابن، والتامر؛ وقيل: الحاصب: حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: حاصب، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين جبال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور
{ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله. {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} أي: في البحر مرة أخرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه، وجاء بفي ولم يقل إلى البحر، للدلالة على استقرارهم فيه {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح} القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدّة، من قصف الشيء يقصفه أي: كسره بشدّة، والقصف: الكسر، أو هو الريح التي لها قصيف أي: صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي: شديد الصوت {فَيُغْرِقَكُم} قرأ أبو جعفر، وشيبة، ورويس، ومجاهد: {فتغرقكم} بالتاء الفوقية على أن فاعله الريح. وقرأ الحسن وقتادة، وابن وردان {فيغرقكم} بالتحتية والتشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر أيضاً: {الرياح}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال. وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضاً، والباء في {بما كفرتم} للسببية أي: بسبب كفركم {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي: ثائراً يطالبنا بما فعلنا. قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم. قال النحاس: وهو من الثأر، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم أي: كرّمناهم جميعاً، وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله.
وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم، وسائر الحيوانات تأكل بالفم، وكذا حكاه النحاس. وقيل: ميزهم بالنطق والعقل والتمييز، وقيل: أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل: بالكلام والخط والفهم، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء. وأعظم خصال التكريم العقل، فإن به تسلطوا على سائر الحيوانات، وميزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم والمشارب، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحرّ والبرد، وقيل تكريمهم: هو أن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم {وحملناهم فِى البر والبحر} هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم، حملهم سبحانه في البرّ على الدواب، وفي البحر على السفن، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي: لذيذ المطاعم والمشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته.
وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع وهو تعسف لا حاجة إليه.
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة، وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية، ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة، وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولا دلالة بها على ذلك، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه. فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله: {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُزْجِى} قال: يجري، وأخرجوا عن قتادة قال: يسيرها في البحر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حاصبا} قال: مطر الحجارة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: حجارة من السماء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {قَاصِفًا مّنَ الريح} قال: التي تغرق.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن عبد الله بن عمرو قال: القاصف والعاصف في البحر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قَاصِفًا} قال: عاصفاً، وفي قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} قال: نصيراً.
وأخرج الطبراني، والبيهقي في الشعب، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر»، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفاً قال: وهو الصحيح.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله من ملائكته.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت: يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان» وأخرجه عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة. وإسناد الطبراني هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدّثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة.
وأخرج نحوه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم.
وأخرج الحاكم في التاريخ، والديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «الكرامة الأكل بالأصابع».


قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال الزجاج: يعني يوم القيامة، وهو منصوب على معنى أذكر يوم ندعوا. وقرى: {يدعو} بالياء التحتية على البناء للفاعل و{يدعى} على البناء للمفعول، والباء في {بإمامهم} للإلصاق كما تقول: أدعوك باسمك، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال، والتقدير: ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم، أي: يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده، والأوّل أولى. والإمام في اللغة كل ما يؤتمّ به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي تدعى كل أناس به، فقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك إنه كتاب كلّ إنسان الذي فيه عمله أي: يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه} [الحاقة: 19]. الآية، وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل الإنجيل بالإنجيل، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن.
وقال مجاهد وقتادة: إمامهم: نبيهم فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد، وبه قال الزجاج.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المراد بالإمام إمام عصرهم، فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه.
وقال الحسن وأبو العالية: المراد {بإمامهم}: أعمالهم، فيقال مثلاً: أين المجاهدون، أين الصابرون، أين الصائمون، أين المصلون؟ ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة.
وقال أبو عبيدة، المراد بإمامهم صاحب مذهبهم، فيقال مثلاً: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان.
وقال محمد بن كعب: {بإمامهم}: بأمهاتهم، على أن إمام جمع أمّ كخف وخفاف، وهذا بعيد جدّاً. وقيل: الإمام: هو كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعلم والكرم والشجاعة، أو قبيح كأضدادها، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام، ذكر معناه الرازي في تفسيره {فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} من أولئك المدعوّين، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير {فَأُوْلَئِكَ} الإشارة إلى {من} باعتبار معناه. قيل: ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل، أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد {يَقْرَءونَ كتابهم} الذي أوتوه {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة، أو هو عبارة عن أقلّ شيء، ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحاً، ولكنه ذكر سبحانه ما يدلّ على حالهم القبيح فقال: {وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى} أي: من كان من المدعوّين في هذه الدنيا أعمى أي: فاقد البصيرة. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وأما قوله: {فَهُوَ فِى الآخرة أعمى} فيحتمل أن يراد به: عمى البصر كقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} [طه: 124 125] وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب؛ وقيل: المراد بالآخرة: عمل الآخرة، أي: فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى؛ وقيل: المراد: من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل: إن قوله: {فَهُوَ فِى الآخرة أعمى} أفعل تفضيل، أي: أشدّ عمى، وهذا مبنيّ على أنه من عمى القلب، إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال: ما أيداه.
وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف.
وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول: ما أسود شعره، ومن ذلك قول الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم *** لؤما وأبيضهم سربال طباخ
والبحث مستوفي في النحو. وقرأ أبو بكر، وحمزة، والكسائي، وخلف: {أعمى} بالإمالة في الموضعين. وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة، وأمال أبو عبيد الأوّل دون الثاني {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يعني: أن هذا أضلّ سبيلاً من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال. ثم لما عدد سبحانه في الآيات المتقدّمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: (أن) هي المخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير شأن محذوف، واللام: هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى: وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة: الاختبار، ومنه فتن الصائغ الذهب، ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حدّه وجهته، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك {عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتتقوّل علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي: لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلاً لهم أي: والوك وصافوك، مأخوذ من الخلة بفتح الخاء. {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} على الحق وعصمناك عن موافقتهم {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل، والركون هو الميل اليسير، ولهذا قال: {شَيْئًا قَلِيلاً} لكن أدركته صلى الله عليه وسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم، فضلاً عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره، وقيل: المعنى وإن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل: كدت تقتل نفسك، أي: كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر معناه المهدوي.
ثم توعده سبحانه في ذلك أشدّ الوعيد فقال: {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي: لو قاربت أن تركن إليهم، أي: مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين، والمعنى: عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي: مضاعفاً، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت، وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه: {يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. وضعف الشيء: مثلاه، وقد يكون الضعف النصيب كقوله: {لِكُلّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] أي: نصيب. قال الرازي: حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب. قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها، والتهديد على المعصية لا يدلّ على الإقدام عليها، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة. {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} الكلام في هذا كالكلام في {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} أي: وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها، ولكنه لم يقع ذلك منهم، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به، وقيل: إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزاً {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلفك إِلاَّ قَلِيلاً} معطوف على {ليستفزونك} أي: لا يبقون بعد إخراجك إلاّ زمناً قليلاً، ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعاً. وقرأ عطاء بن أبي رباح: {لا يلبثوا} بتشديد الباء الموحدة. وقرئ: {لا يلبثوا} بالنصب على إعمال (إذ)، على أن الجملة معطوف على جملة: {وَإِن كَادُواْ} لا على الخبر فقط. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو بكر، وأبو عمرو: {خلفك} ومعناه: بعدك. وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي {خلافك} ومعناه أيضاً: بعدك.
وقال ابن الأنباري: {خلافك} بمعنى: مخالفتك، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله} [التوبة: 81] ومما يدلّ على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما *** بسط الشواطب بينهنّ حصيرا
يقال: شطبت المرأة الجريد: إذا شققته لتعمل منه الحصير. قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} {سنّة} منتصبة على المصدرية، أي: سنّ الله سنّة.
وقال الفراء: أي يعذبون كسنّة من قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل: المعنى: سنّتنا سنّة من قد أرسلنا. قال الزجاج: يقول إن سنّتنا هذه السنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي: ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والخطيب في تاريخه عن أنس في الآية قال: نبيهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب أعمالهم.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ في الآية قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم، وكتاب ربهم وسنّة نبيهم.
وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم، ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللّهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال البزار بعد إخراجه: لا يروى إلا من هذا الوجه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى} يقول: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا {فَهُوَ} عما وصفت له {فِى الآخرة} ولم يره {أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يقول: أبعد حجة.
وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً يقول: من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً قال: إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدّ عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {نَصِيراً}.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن ياذان، عن جابر بن عبد الله مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله: «وما عليّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه»؟ فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير: أن قريشاً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فأوحى الله إليه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1]. فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} [النجم: 19]. فألقى عليه الشيطان: تلك الغراييق العلى. وأين شفاعتهم لترتجى، فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي من السورة وسجد، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية، فما زال مهموماً مغموماً حتى أنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى} الآية [الحج: 52].
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس: أن ثقيفاً قالوا للنبيّ: أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ أن يؤجلهم، فنزلت: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال: هو عذاب القبر.
وأخرج أيضاً عن عطاء مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهمّ أن يشخص، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم، أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت نبياً فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء، فصدّق النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، فتحرّى غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إلى قوله: {تَحْوِيلاً} فأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وقال له جبريل: سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال: «ما تأمرني أن أسأل؟» قال: {قُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك.
قال ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر، والظاهر أنه ليس بصحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} [التوبة: 123]. وغزاها ليقتصّ وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض} قال: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وقد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر، وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً} قال: يعني بالقليل: يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6